لم تكن العلاقة بين "قمع الثقافة وازدهار التطرف" ظاهرة حديثة أو مقتصرة على منطقة بعينها. ففي صفحات التاريخ، تتكرر هذه المأساة بوجوه مختلفة. لنتأمل، على سبيل المثال، ما حدث في "الأندلس بعد سقوط غرناطة" ، حيث بدأ عهدٌ من التطهير الثقافي الذي طال الكتب والمخطوطات، وتوّج بقمع التنوع الفكري الذي ازدهر لقرون. لم تكن النتائج آنذاك ظهور جماعات متطرفة بالمعنى الحديث، لكنها كانت بداية لانغلاق فكري وثقافي أثر على مسار الحضارة هناك. وفي حقب أحدث، رأينا كيف أن الأنظمة الشمولية، من الفاشية إلى الستالينية، كانت تبدأ حملاتها بقمع الفنانين والمثقفين وحرق الكتب، لتمهيد الطريق أمام أيديولوجية واحدة لا تقبل الاختلاف.
في كل زاوية من زوايا العالم، تقف "الثقافة والفنون كحراس للمجتمع المتنور" ، منارات تهدي البشرية نحو الإبداع، التفكير النقدي، والتسامح. إنها الفضاءات التي يلتقي فيها العقل بالروح، حيث تزدهر الموسيقى، يُولد الرسم، وتُنسج الحكايات التي تعكس عمق التجربة الإنسانية. وكما قال الفيلسوف الإغريقي "أرسطو" : "الفن يغسل من الروح غبار الحياة اليومية". إنه البلسم الذي يُداوي جروح الروح ويُضيء دروب العقول.
التربة الخصبة للتطرف
على النقيض تمامًا، يقف التعليم الديني المنغلق، الذي إذا لم يتوازن مع روافد الفكر الحر، يصبح أرضًا خصبة لنمو التعصب وتجفيف منابع الإنسانية. إن رؤية دولة تُغلق قصور الثقافة، تُحرّم الموسيقى والرسم، وتُزدرى فيها الفنون، بل وتُسجن المثقفين، بينما تُنفق بسخاء على الكتاتيب ورجال الدين والمدارس الدينية ذات المناهج الضيقة، هي رؤية كابوسية. هذه ليست مجرد سياسات خاطئة؛ إنها وصفة مؤكدة لكارثة مجتمعية
. وكما يُقال: "إذا أردت أن تدمر أمة، فابدأ بتدمير ثقافتها".
وحين ننظر إلى السياق السوري، فإن هذه الكارثة ليست مجرد تنبؤ، بل هي واقع مؤلم عايشناه وما زلنا نعيشه.
الواقع السوري المؤلم
في المناطق التي وقعت تحت سيطرة جماعات متطرفة كـ :داعش والقاعدة" أو الفصائل المنبثقة منهما في سوريا، لم تكن السياسات المذكورة مجرد احتمال، بل كانت منهجًا مطبقًا بحذافيره. لقد رأينا بأعيننا كيف تم "تدمير الموروث الثقافي"، وتجريم أي مظهر فني أو إبداعي. تحوّلت قصور الثقافة إلى ثكنات أو سجون، وصمتت آلات الموسيقى إلى الأبد، أو تم إحراقها علنًا في ميادين الترهيب. أُجبر الفنانون والمثقفون على الفرار، أو واجهوا مصيرًا مروعًا على أيدي من يرون في الفن والثقافة تهديدًا مباشرًا لأيديولوجياتهم الظلامية.
هنا يحضر قول الشاعر أحمد شوقي
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيل
كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَوَّلَ مَن عَلَّمَ قَومًا عُقِلا
يُعَلِّمُ الأَجيالَ بِما كانا يُجْهِلا
لكن السؤال هنا: أي نوع من المعلمين؟ وأي نوع من التعليم؟ فما رأيناه كان تعليمًا يُطفئ العقول لا يُنيرها.
"طريق واحد إلى الهاوية"
في المقابل، انتشرت الكتاتيب والمدارس الدينية التي لم تكن تُعلّم سوى "التطرف والتكفير"، تُغذّي عقول الأطفال والشباب بمفاهيم ضيقة ومنغلقة، تُحرض على الكراهية وتُروّج للعنف باسم الدين. لم يكن الهدف هو التعليم الديني السمح، بل هو تجنيد العقول لخدمة مشروع متطرف.
هذا التناقض الصارخ بين دعم التعليم الديني المتشدد وقمع الفنون والثقافة، ليس مجرد خلل في الأولويات؛ إنه استراتيجية متعمدة لتفكيك النسيج الاجتماعي وتفريغ المجتمع من أي حصن فكري أو ثقافي يمكن أن يقف في وجه التطرف. عندما تُغلق أبواب التفكير الحر، والإبداع، والتعبير المتنوع، تفتح الأبواب على مصراعيها أمام "الفكر الأحادي"، التعصب، والتطرف العنيف.
وكما قال الشاعر إيليا أبو ماضي
كَمْ تشتكي وتَقولُ إنكَ مُعْدَمٌ
والأرضُ ملككَ والسماءُ والأنجُمُ
هذه الأبيات تدعو للتأمل في ثراء الوجود الذي يُحرم منه الإنسان عندما تُقمع حريته في التعبير والتفكير، ويُحاصَر في أفق ضيق.
إن مصير الدولة والمجتمع الذي يسلك هذا الدرب هو فعلاً ،المصير الذي يجر إليه داعش والقاعدة. ليس لأن هذه الجماعات ستأتي من الخارج، بل لأنها "ستنمو من الداخل"، في التربة الخصبة التي وفرها القمع الثقافي والتعليم المنغلق. سوريا، بمناطقها التي وقعت تحت هذا الحكم، تُقدم لنا درسًا قاسيًا ومؤلمًا: حيث تموت الثقافة، يزدهر التطرف، ويدفع المجتمع الثمن فادحًا.
0 تعليق