رغم ما أثاره فيلم Delicious (2025) من آراء متباينة واعتراضات حول قصته الغريبة ونهايته المفتوحة، فإن شيئًا في فكرته ظل يلاحقني، يدفعني للتأمل والكتابة. ثمة هدوء خادع يلف هذا العمل، لكنه يخفي تحته اضطرابًا طبقيًا وعاطفيًا لا يقل عنفًا عن أكثر المشاهد صخبًا. لهذا، لم أستطع تجاوزه ببساطة. حين تشاهد فيلم Delicious، ستدخل تجربة نفسية مشحونة بالتوتر والغموض. هذا العمل، القادم من توقيع المخرجة الألمانية Nele Mueller-Stöfen نيلي مولر-شتوفن، يشبه وجبة فاخرة تقدم بتروٍ، تغريك بمذاقها البصري قبل أن تكشف لك عن مرارتها العاطفية. منذ عرضه الأول في مهرجان برلين السينمائي، خطف الفيلم انتباه النقاد لما يحمله من تداخل خفي بين صراعات الطبقات، وتشقق العلاقات الأسرية تحت قشرة الهدوء المصطنع.
الفرضية السردية في Delicious تبنى بهدوء بلا صراخ أو مطاردات، فقط حرارة داخلية تتصاعد بين الشخصيات. نحن أمام عائلة ألمانية ثرية تقضي عطلتها في ريف بروفانس الفرنسي، كل شيء يبدو رائعًا، المناظر، الهدوء، الرفاهية. حتى تظهر تيودورا. شابة غامضة لا تقول الكثير، لكنها تقول ما يكفي. بدخولها إلى هذا العالم المغلق تبدأ الخيوط في الانفلات، ليس لأن تيودورا "تفعل" شيئًا دراميًا، ولكن لأن وجودها وحده يربك هذا التوازن.
يبنى الفيلم على التوتر الخفي الذي تولده التفاصيل الإنسانية، نظرات، سكوت، مشاعر غير مصرح بها، لا على أحداث خارجية تهز البناء. تيودورا ليست مجرد ضيفة، وإنما كتلة من الأسئلة. من هي؟ ولماذا تزعج هذا النظام الراكد؟ لكنها في الحقيقة تسحب الأقنعة واحدًا تلو الآخر وتكشف ما لا يقال في بيت يبدو "مثاليًا". هذه البساطة الظاهرة في السرد تخفي حسابات طبقية دقيقة ومشاعر مكتومة تنفجر بصمت.
الأداء التمثيلي في Delicious يشكل أحد أعمدة الفيلم الصلبة التي تمنحه ذلك التوتر الهادئ المتواصل. Carla Diaz كارلا دياز في دور تيودورا تمسك بالخيط الرفيع بين الغموض والبرود الظاهري، وتمرر عاطفتها في ومضات صامتة أكثر مما تفعل بالكلمات. حضورها لا يحتاج إلى حوار طويل كي يحدث أثرًا، فعيونها وحدها تلقي بثقل الشخصية في كل مشهد.
أما بقية الطاقم، فيؤدون أدوارهم بحساسية واضحة، دون افتعال أو تصنع. هناك صدق متبادل بين الشخصيات، تنقله الكاميرا بنعومة، مما يجعل المشاهد يشعر أنه يراقب حياة حقيقية تتفكك بهدوء أمام عينيه. هذا الاتزان في الأداء، البعيد عن المبالغة، هو ما يمنح العلاقات في الفيلم طابعها المؤلم والحميم في آن واحد.
الإخراج في Delicious لا يسعى إلى الإبهار بقدر ما يستدرج المشاهد إلى الداخل، إلى التفاصيل، إلى الصمت الذي يتكلم. المخرجة الألمانية نيلي مولر-شتوفن تتبنى أسلوبًا بصريًا متقشفًا، لكنه أنيق ومدروس؛ كاميرا ثابتة، إضاءة طبيعية، كادرات توزع الشخصيات بعناية تبرز المسافات النفسية قبل الجغرافية.
الريف الفرنسي، الذي يبدو للوهلة الأولى فضاءً للاسترخاء والصفاء، يتحول تدريجيًا تحت عين المخرجة إلى حقل رمزي مشحون. البيوت، الطاولات، الممرات، كلها تتحول إلى مساحات للصراع الخفي، والانهيار البطيء. الإخراج هنا لا يشرح، لكنه يلمح. ويفتح المعنى على تأويلات كثيرة، وهو ما يجعل الصورة في الفيلم شريكًا حقيقيًا في خلق الحالة، وليست مجرد وسيط لسرد القصة.
الرمزية في Delicious لا تهمس وإنما توخز، فلا تكتفي بالتلميح، فهي تغلف المعنى بمذاق خادع. فبينما يوحي العنوان بشيء دافئ، منزلي، وربما حتى حميم، يقلب الفيلم التوقع رأسًا على عقب ويقدم "اللذة" باعتبارها أداة هيمنة، وربما شكلًا ناعمًا من أشكال الافتراس الطبقي.
العلاقة بين تيودورا والعائلة مرآة طبقية مشروخة، السيد مقابل الخادمة، الثابت في مكانه مقابل من يحاول التسلل، المترف في امتلاكه التفاصيل مقابل من يطالب بحق في الوجود. هنا، الطعام ليس مجرد خلفية، لكنه ساحة كاملة للصراع؛ أدوات التقديم، ترتيب الأطباق، من يقدم ومن يأكل أولًا، كلها إشارات مشفرة تنتمي إلى لغة اجتماعية دقيقة تفككها الكاميرا بهدوء.
وهكذا، تنجح نيلي مولر-شتوفن في أن تجعل من "الأكل" فعلًا سياسيًا، ومن "اللذة" علامة على تفاوت طبقي أكثر مما هي متعة حسية.
ولكن، على الرغم من أن Delicious يتقن خلق أجواء مشحونة بالتوتر والجمال البصري الصامت، إلا أن ما يضعف بعض من أثره هو هشاشة البناء الدرامي تحت هذا الغلاف المتقن. السيناريو لا يمنح الشخصيات الفرعية ما يكفي من عمق، فتظل حركتها في الحكاية رمزية أكثر منها حقيقية، وكأنها موجودة لتأدية وظيفة داخل المعنى لا داخل الحياة. حتى تيودورا، رغم كونها محور الفيلم، تظل شخصيتها مغلقة أكثر مما ينبغي؛ لا نعرف عنها الكثير، ولا نفهم دوافعها بوضوح، وهو ما يحد من قدرتنا على التماهي معها أو حتى مقاومتها بصدق.
أما الحبكة، فتسير بإيقاع متمهل يخدم الحالة، لكنه في بعض اللحظات يبدو مفرغًا من التقدم الفعلي. ثمة مشاهد تمر دون أن تضيف جديدًا، أو تترك نهاياتها مفتوحة بلا دلالة كافية. يعول الفيلم كثيرًا على الغموض كأداة فنية، لكنه لا يسند هذا الغموض دومًا بما يكفي من بناء داخلي يجعل الحيرة ثرية وليست فارغة.
إنها تلك اللحظات المواربة، الصامتة، التي تمنح Delicious جماله، لكنه أيضًا ما يجعله مترددًا بين أن يكون لوحة فنية أو حكاية متماسكة.
حين تصل إلى آخر مشاهد الفيلم، لن يمنحك الجواب الذي كنت تتهيأ له طوال الرحلة. لا صدام، لا كشف نهائي، لا لحظة تتويج درامي تضع المشاعر في مكانها. بدلًا من ذلك، ينسحب الفيلم بهدوء، كما بدأ، ويترك خلفه أثرًا غامضًا معلقًا. هذه النهاية المفتوحة، رغم انسجامها مع أسلوب الفيلم التأملي، تشكل نقطة توتر واضحة مع توقعات المتلقي. كثير من المشاهدين -حتى أولئك المعتادين على السينما الهادئة -خرجوا منها بشعور يشبه الجوع السردي؛ كمن يتناول وجبة أنيقة المظهر، لكنها بلا طعم واضح.
لا يقدم الفيلم نهاية مغلقة، ولا حتى مفتوحة البنية. وإنما يكتفي بالإيماء، ويعقد ذروة التوتر دون أن يطلق سراحها. وهذا ما يجعل الكثيرين يشعرون أن الحكاية لم تكتمل، ليس لأنها تركت سؤالًا بلا إجابة، لكن لأنها توقفت فجأة عند منتصف النفس. في سياق يعتمد على التوتر الداخلي والشحن الرمزي، كان يمكن أن تمنح النهاية بعدًا وجوديًا أو إحساسًا بالخسارة أو الانقلاب، لكن كل هذا ظل محتملًا، لا محسوسًا؛ لذا، قد يرى البعض في هذا الانسحاب البارد فضيلة فنية، لكنه بالنسبة لجمهور أرهقته التلميحات وتوقع لحظة تفكك، بدا كنوع من الهروب، لا الخاتمة.
Delicious يتركك في منطقة رمادية لا توفر اليقين، لكنها تثير أسئلة ممتدة عن السلطة والرغبة، وعن كل ما لا يقال داخل الأماكن الهادئة. في ترتيب المقاعد، في من يخاطب من، في نظرة تقال وتطوى، تتسرب الطبقات كمنظومة خفية لا تناقش، لكنها تمارس ويسلم بها، دون أن يسجل لها صوت.
0 تعليق