تعزيز أخلاقيات البحث العلمي
بداية ما الدافع وراء إطلاق المعهد لهذه المبادرة؟ وما هي أبرز أهدافها؟
المملكة تخطو خطوات متقدمة في تعزيز أخلاقيات البحث العلمي، وهذه المبادرة تأتي في هذا السياق، حيث أطلق المعهد الوطني لأبحاث الصحة مبادرة وطنية رائدة تهدف إلى اعتماد برامج حماية المشتركين في الأبحاث (Human Research Participants Protection Programs - HRPP).
الهدف من هذه الخطوة هو تعزيز الثقة المجتمعية في البحث العلمي، وضمان احترام الحقوق الأساسية وسلامة جميع الأفراد الذين يشاركون في الدراسات الطبية والعلمية.
ولا تقتصر هذه المبادرة على الجوانب الإجرائية مثل تقييم المشاريع أو تشكيل اللجان الأخلاقية، بل تمتد إلى تبني رؤية مؤسسية شاملة تُرسخ الثقافة الأخلاقية في كل مستويات العمل البحثي، وتضع حماية الإنسان في قلب العملية البحثية.

د. غياث حسن الأحمد
ما أبرز نتائج هذه المبادرة حتى الآن؟
تجلّت أولى نتائج هذه المبادرة في اعتماد برنامج مدينة الملك عبدالله الطبية بمكة المكرمة، لتصبح بذلك أول جهة في المملكة تنال هذا الاعتماد المتقدم، وتُقدّم نموذجًا يُحتذى به في الحوكمة الأخلاقية المؤسسية للبحث العلمي.
ما المقصود ببرنامج حماية المشتركين في الأبحاث؟ وما الذي يميزه عن اللجان الأخلاقية التقليدية؟
برنامج حماية المشتركين في الأبحاث هو منظومة مؤسسية متكاملة تتبناها الجهات الصحية والبحثية لضمان حفظ حقوق وكرامة وسلامة الأفراد الذين يشاركون في الدراسات، لا سيما تلك التي تحتوي على تدخلات طبية أو نفسية أو تتطلب جمع معلومات شخصية وحساسة.
ويمتاز البرنامج بأنه يتخطى الدور التقليدي الذي تؤديه لجان أخلاقيات البحث، إذ يمتد ليشمل تطوير سياسات وإجراءات تنظيمية واضحة، وتنفيذ برامج تدريب مستمرة للباحثين والعاملين، بالإضافة إلى تفعيل آليات فعالة للإبلاغ والمراقبة، وتعزيز قنوات التفاعل مع المجتمع والمشتركين أنفسهم.
ويُجسّد هذا التوجه إدراكًا متقدمًا بأن حماية المشتركين لا تقتصر على إجراء شكلي للحصول على الموافقة الأخلاقية، بل هي مسؤولية مؤسسية متواصلة، تتطلب التزامًا ممنهجًا يضمن الامتثال الدائم للقيم والمبادئ الأخلاقية في كل مرحلة من مراحل البحث العلمي.


ما أهمية أن يكون هناك اعتماد مؤسسي لهذه البرامج؟
الاعتماد المؤسسي لبرامج حماية المشتركين في الأبحاث يُعد تأكيدًا رسميًا على التزام الجهة البحثية بأعلى معايير النزاهة والشفافية واحترام حقوق الإنسان.
ولا تقتصر أهمية الاعتماد على الإطار الرمزي، بل تنعكس آثاره العملية في عدة جوانب جوهرية، أبرزها الارتقاء بجودة الأبحاث وتحسين مخرجاتها العلمية، وتعزيز ثقة المجتمع في الجهة البحثية، وطمأنة المشتركين إلى أن حقوقهم محفوظة ضمن نظام مؤسسي راسخ.
كما يسهم الاعتماد في تمكين المؤسسات من خلق شراكات بحثية دولية، ويفتح أمامها آفاقًا جديدة للتمويل والدعم الخارجي، فضلًا عن دوره في ترسيخ بيئة مؤسسية منضبطة تُراعي الجوانب الأخلاقية في كل مراحل العمل البحثي.
ما هو الدور الذي يضطلع به المعهد الوطني لأبحاث الصحة في هذه المبادرة؟
المعهد الوطني لأبحاث الصحة يضطلع بدور محوري في قيادة مسار اعتماد برامج حماية المشتركين في الأبحاث على مستوى المملكة، بوصفه الجهة التنظيمية والمُمكّنة لهذه المبادرة الوطنية.
وقد تبنّى المعهد رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء منظومة أخلاقية متكاملة تحكم البحث العلمي، وتضمن حماية المشتركين فيه ضمن إطار مؤسسي مستدام.
وتشمل جهود المعهد إعداد معايير وطنية مستندة إلى أفضل الممارسات الدولية، وتقديم الدعم الفني والتوجيهي للجهات الراغبة في تطوير برامجها، إلى جانب تنفيذ عمليات تقييم دقيقة تشمل مراجعة الوثائق والزيارات الميدانية.
ولا يقتصر دور المعهد على منح الاعتماد، بل يمتد إلى متابعة أداء البرامج بعد اعتمادها، وتعزيز التحسين المستمر، بما يضمن ترسيخ ثقافة أخلاقيات البحث في المؤسسات الصحية والأكاديمية بالمملكة.


عوامل نجاح المشروع
من وجهة نظركم، ما أبرز عوامل النجاح التي تدعم هذا المشروع؟
المملكة العربية السعودية تتمتع بعوامل جوهرية تكفل نجاح مشروع اعتماد برامج حماية المشتركين في الأبحاث، الذي يُعد مشروعًا وطنيًا استراتيجيًا بامتياز، ويأتي في إطار تعزيز بيئة بحثية آمنة وأخلاقية وفق أعلى المعايير العالمية.
ومن أبرز عوامل النجاح وجود رغبة وطنية جادة في التحول الصحي الشامل، إذ يشكل تطوير القطاع الصحي أحد المحاور الرئيسة لرؤية السعودية 2030، ويستلزم ذلك بناء منظومة بحثية متكاملة وموثوقة تتسم بالجودة والشفافية وحماية الحقوق.
كما أن المشروع يحظى بدعم مؤسسي من الجهات التنظيمية والصحية، ويستند إلى خبرات وطنية متخصصة، وإلى بنية تحتية بحثية متطورة في العديد من المؤسسات الأكاديمية والمراكز الطبية، ما يعزز من فرص التطبيق السليم والفعّال.
وتُعد الرغبة المتزايدة لدى الجهات الصحية والأكاديمية في الحصول على الاعتمادات الوطنية والدولية عاملًا محفزًا آخر، يدفع نحو تحسين الممارسات وتبني البرامج التي تحمي المشاركين وتعزز الموثوقية.
معايير الاعتماد
ما هي معايير الاعتماد ومتطلباته التي ينبغي على الجهات الالتزام بها؟
تمر الجهات التي تسعى للحصول على اعتماد برنامج حماية المشتركين في الأبحاث بعملية تقييم دقيقة تُراعي مدى تكامل المنظومة الأخلاقية لديها.
ويتطلب ذلك توفر عدد من المقومات الأساسية، من أبرزها وجود لجنة مستقلة وفعّالة لأخلاقيات البحث تتولى مراجعة البروتوكولات وضمان التزامها بالمعايير الأخلاقية، وتوفر سياسات وإجراءات مكتوبة ومنشورة تنظم جميع مراحل البحث من التخطيط إلى التنفيذ والمتابعة.
كما يُشترط أن يخضع الباحثون والكوادر المساندة لتدريب منتظم على المبادئ الأخلاقية والممارسات السليمة، وأن تُفعّل آليات واضحة وشفافة تتيح للمشتركين أو العاملين الإبلاغ عن أي شكاوى أو انتهاكات محتملة.
ولضمان الاستمرارية والتحسين، لا بد من وجود أنظمة داخلية للرصد والمراجعة تُمكّن الجهة من تقييم أدائها دوريًا وتطويره وفقًا لأفضل الممارسات.
ماذا عن تجربة مدينة الملك عبدالله الطبية؟ وكيف تُقيّمونها؟
شكّلت تجربة مدينة الملك عبدالله الطبية بمكة المكرمة نموذجًا وطنيًا يُحتذى به في مجال اعتماد برامج حماية المشتركين في الأبحاث، إذ استطاعت المدينة أن تُكمل بنجاح مراحل التقييم المؤسسي كافةً، وتحصل على أول اعتماد رسمي من المعهد الوطني لأبحاث الصحة في هذا المجال على مستوى المملكة. وتميّزت هذه التجربة ببناء هيكل مؤسسي واضح، وتفعيل السياسات والإجراءات التنظيمية ذات العلاقة بحماية المشتركين، فضلًا عن تنفيذ برامج تدريبية شاملة استهدفت الباحثين والكوادر الداعمة.
كما حرصت المدينة على تفعيل قنوات تواصل مباشرة مع المشتركين في الأبحاث، تتيح لهم فهم حقوقهم والإفصاح عن أي مخاوف أو استفسارات.
وجاء هذا الاعتماد تتويجًا لجهود متراكمة بذلتها المدينة لسنوات، ويُعد خطوة مفصلية في ترسيخ نموذج مؤسسي يقوم على المسؤولية والالتزام الأخلاقي.
كيف ترى المعهد مستقبل هذه المبادرة في ظل رؤية السعودية 2030؟
يُمثل مشروع اعتماد برامج حماية المشتركين في الأبحاث خطوة استراتيجية تتناغم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، التي تسعى إلى بناء قطاع بحثي وابتكاري رائد، يتسم بالجودة، والنزاهة، والتنافسية العالمية. ويعكس هذا المشروع توجه المملكة نحو توطين أفضل المعايير العالمية، وتقديم نموذج يُحتذى به في مجال أخلاقيات البحث، من خلال مؤسسات قادرة على حماية الإنسان وصيانة كرامته في كل الظروف.
كما أن هذه المبادرة تُجسّد استجابة فعلية لتطلعات المجتمع في أن تكون الأبحاث التي يُشارك فيها أفراده محاطة بأقصى درجات الحماية والشفافية، بعيدًا عن أي احتمال للاستغلال أو الإضرار. ومن المتوقع أن تُشكّل هذه الخطوة حافزًا لبقية المنشآت الصحية والأكاديمية في المملكة لتطوير برامجها الأخلاقية، والمشاركة في مسار الاعتماد، بما يُسهم في بناء منظومة وطنية متكاملة لأخلاقيات البحث العلمي.
رسالة أكاديمية
ما رسالتكم الختامية للمؤسسات الأكاديمية والبحثية في المملكة؟
إن اعتماد برامج حماية المشتركين في الأبحاث يمثل نقطة تحوّل استراتيجية في مسار تطور البحث العلمي في المملكة، ليس فقط من حيث الالتزام بالمعايير، بل بوصفه تعبيرًا عمليًا عن احترام الإنسان وإعلاء شأن الأخلاقيات في كل مراحل العمل البحثي.
ومع إطلاق المعهد الوطني لأبحاث الصحة لهذه المبادرة الوطنية، ونجاح أولى التجارب في مدينة الملك عبدالله الطبية، أصبحت الفرصة مهيأة أمام سائر المؤسسات البحثية في القطاعين الصحي والأكاديمي لبناء منظومات حماية متكاملة تعكس النضج المؤسسي والالتزام الوطني.
المرحلة القادمة تستدعي شراكة واعية بين الجهات التنظيمية والمؤسسات البحثية والكوادر العلمية، من أجل ترسيخ ثقافة جديدة ترى في حماية المشتركين مسؤولية جوهرية لا هامشية، وشرطًا أصيلًا لا ترفًا تنظيميًا. فإن ثقة المجتمعات في البحث العلمي لا تُمنح تلقائيًا، وإنما تُكتسب من خلال الجدية، والالتزام، والاحترام الصادق لحقوق الإنسان.
0 تعليق