في صباح عيد شم النسيم، تمتزج رائحة الرنجة والفسيخ في الأزقة والبيوت، كأنها موسيقى غامضة تعزفها مصر من قلب التاريخ، فتُوقظ في النفوس ذكرى تعتبر كوشمٍ فرعونيٍّ على جسد المدينة، يُعرف به أن العيد قد حل، وأن الربيع قد بسط سجادته الخضراء على الأرض، وفي الجوار، تلمع ملابس العيد الزاهية التي يرتديها الأقباط بعد عيد القيامة، كأزهار تتفتح في حقول الحياة، فترى أطفال يركضون بضحكاتهم، وعيونهم تلمع كبريق البيض الملوّن، والفرحة تنسدل على الوجوه كستائر من نور، أما الحدائق فهي عروس اليوم، قد تزينت بألوان الزهور، واستلقت في دلال تحت شمس دافئة بعد شتاءٍ قارسٍ خلد أخيرًا للنوم، فتتنفس الأرض ويبتسم النيل وتغرد الطيور كأنها تشارك المصريين عيدهم الخالد، فيوم شم النسيم يعبر عن استقبال موسم اعتدال الجو، حيث لا برد يقسو ولا حر يلهب، بل نسمات ربيعية تهدهد القلوب، وتدعوها للفرح.
ففي صباحٍ ربيعي مشرق، حيث تتزين السماء بزرقتها الصافية وتداعب النسائم العليلة وجوه المارة بلطفٍ كأنها تحييهم، يحتفل المصريون بعيد شم النسيم، والذي يُعد من أقدم الأعياد التي عرفها الإنسان، والممتد بجذوره إلى حضارة الفراعنة، فتستيقظ مصر في هذا اليوم على نغمة مختلفة، حيث تخرج الأسر من بيوتها جماعات إلى الحدائق والمتنزهات وعلى ضفاف النيل، يحملون معهم سلالاً من الطعام المميز، أشهره "الفسيخ" والرنجة والبصل والبيض الملون، وهي رموز متوارثة تحمل دلالات عميقة؛ فالبيض رمز للخلق والتجدد، والبصل للحماية من الأرواح الشريرة، والسمك للحياة والاستمرارية.
ويختلط صوت ضحكات الأطفال بأصوات الطبيعة، وتنسج الشمس بخيوطها الذهبية لوحة نابضة بالحياة، وكأنها تشارك الناس فرحتهم، وتتحول الحدائق إلى مسارح مفتوحة للبهجة، تزينها ألوان الملابس الزاهية والبالونات وألعاب الأطفال، فتبدو مصر في هذا اليوم وكأنها عروس تتجمل بطبيعتها وسكانها، فهو جسر يربط الماضي بالحاضر، ويؤكد أن روح مصر رغم تبدل الأزمنة، لا تزال تنبض بالحياة ولا تزال تعرف كيف تحتفل وتمنح الدنيا درساً في البهجة والأصالة.

تاريخ الاحتفال بشم النسيم في مصر
يُعد عيد شم النسيم من أقدم الأعياد في التاريخ الإنساني، وتعود أصوله إلى أكثر من خمسة آلاف عام، إلى مصر الفرعونية، حيث كان يحتفل به المصريون القدماء تحت اسم "عيد شمو"، والذي يعني “بعث الحياة” أو “تجدد الخلق”، وكان يُعتبر عيدًا موسميًا يمثل بداية فصل الربيع، وتحديدًا “الاعتدال الربيعي”، عندما يتساوى الليل والنهار، وتبدأ الطبيعة في الإزهار والتجدد.
ففي العصر الفرعوني، كان المصريون القدماء يقدّسون هذا اليوم باعتباره رمزًا للخلق وبداية الحياة، واعتبروا أن العالم قد بدأ في مثل هذا اليوم، لذلك ارتبط بطقوس روحية وفلسفية عميقة، وكانوا يخرجون في فجر ذلك اليوم إلى ضفاف النيل والحقول والحدائق، ويتناولون أطعمة ترمز للحياة مثل البيض الملون كرمز للخلق، والسمك المملح (الفسيخ) كرمز للحياة والاستمرارية، والبصل كرمز للحماية من الأرواح الشريرة، والخضروات كرمز للنقاء والنمو.
وفي العصر القبطي، عندما دخلت المسيحية مصر، استمر الاحتفال بشم النسيم ولكن تم ربطه بعيد القيامة المجيد، فأصبح يُحتفل به في اليوم التالي له، وفق التقويم القبطي، مع الاحتفاظ بنفس الطقوس الفرعونية تقريبًا ولكن بصبغة اجتماعية ودينية.

ومع دخول الإسلام، لم يُلغَ الاحتفال بشم النسيم، بل استمر كشكل من أشكال العادات الشعبية والتراثية، ورغم اختلاف العقائد، لم يكن في الاحتفال ما يتعارض مع الشريعة، فشارك المسلمون فيه من خلال الخروج إلى الطبيعة وتناول الأطعمة التقليدية، في مشهد يعكس الترابط بين فئات الشعب المصري.
فعلى الرغم من أن شم النسيم مرتبط زمنيًا بعيد القيامة المجيد لدى المسيحيين الأقباط، إلا أن الاحتفال به لا يحمل طابعًا دينيًا، بل هو عيد مصري أصيل جذوره فرعونية، ما جعله مشتركًا بين كل أطياف المجتمع، دون استثناء، ففي هذا اليوم، تخرج العائلات المسلمة والمسيحية معًا إلى المتنزهات والحدائق، يتشاركون الطعام والترفيه، وتنتشر الروح الطيبة والمودة بينهم، ويُحضر الجميع الأطعمة التقليدية مثل الفسيخ، والرنجة، والبصل الأخضر، والبيض الملون، ويجلسون على الحشائش قرب النيل أو في الحدائق العامة، في مشهد يجمع ما بين التراث والطبيعة والناس.
ولا يرى المسلمون في الاحتفال بشم النسيم مخالفة دينية، ما دام لا يتضمن شعائر دينية غير إسلامية، ويعتبرونه مناسبة اجتماعية مبهجة، وفرصة للقاء الأصدقاء والعائلة في جو من الفرح، ويرى المسيحيون أن العيد هو تتويج لاحتفالات القيامة، لكنهم يحتفلون به أيضًا على الطريقة المصرية الشعبية، تمامًا كما يفعل جيرانهم المسلمون، وهكذا، يتحول شم النسيم إلى لوحة مصرية صافية، يُرسم فيها التعايش الحقيقي والمحبة العميقة بين أبناء الوطن الواحد، حيث لا فرق بين مسلم ومسيحي، بل الجميع أبناء نيل واحد، وأرض واحدة، وتاريخٍ مشترك.

أكلات شم النسيم... تقاليد فرعونية بنكهة مصرية خالصة
في كل عام، ومع بداية فصل الربيع، يتجدد مشهد الاحتفال بعيد شم النسيم في مختلف أنحاء مصر، حيث يحتفظ المصريون بعاداتهم التي توارثوها جيلاً بعد جيل، وتتصدر الأطعمة التقليدية المشهد في هذا اليوم المميز، والتي تمتزج فيها الرموز التاريخية والمعاني الشعبية، لتعبر عن الارتباط العميق بين الإنسان والطبيعة.
الفسيخ... طبق رئيسي رغم التحذيرات
يُعد الفسيخ، السمك المُملح الذي اشتهر به المصريون القدماء، الطبق الأشهر على مائدة شم النسيم، ورغم التحذيرات الصحية التي تتكرر سنويًا بشأن طرق تحضيره، إلا أن الإقبال عليه لا يتراجع، ويظل رمزًا للأصالة والاحتفال.
الرنجة والبصل والخس... تنويعات على الطابع التراثي
إلى جانب الفسيخ، تأتي “الرنجة” كخيار شائع، خاصة لدى من يفضلون طعمًا أقل ملوحة، كما يُقبل المصريون على تناول “البصل الأخضر”، الذي اعتبره الفراعنة رمزًا لطرد الأرواح الشريرة، والخس يدل على النمو والنقاء، في حين تُزين موائد الأطفال بـ “البيض الملون”، الذي يعكس روح التجدد والخلق في فصل الربيع.
كما تمتلئ الحدائق بالبهجة الجماعية، حيث تتجه العائلات إلى الحدائق والمتنزهات العامة حاملين معهم الطعام وأدوات اللعب والفرح، وتتحول المساحات الخضراء إلى لوحات بشرية مبهجة، تتداخل فيها أصوات الضحك مع نسمات الربيع، وفي المدن القريبة من ضفاف النيل، يُفضل الكثيرون الجلوس في المساحات الخضراء القريبة منه أو القيام بجولات نيلية، ويرتدي الأطفال ملابس زاهية الألوان، تعبيرًا عن البهجة وارتباطًا بروح الربيع، وتقام في بعض الأماكن عروض فنية شعبية وألعاب للأطفال، تُكمل أجواء العيد بجو من المرح الجماعي بعيدًا عن الطابع الديني، حيث يجمع كل فئات وطوائف المجتمع المصري، ليحتفلوا معًا بالحياة والطبيعة، وبجذورهم التي لا تزال تنبض بالحيوية من قلب الحضارة القديمة.

أشهر الحدائق والمنتزهات العامة للاحتفال شم النسيم
في عيد شم النسيم، تتحول الحدائق والمنتزهات في مصر إلى مسارح مفتوحة للبهجة، حيث يتوافد الملايين من الأسر لقضاء يوم ممتع في أحضان الطبيعة، وتتنوع هذه الأماكن ما بين حدائق تاريخية وحديثة، وكلٌ منها يحمل طابعًا خاصًا يجعل منه وجهة مفضلة في هذا اليوم المميز، ومن أشهر الحدائق والمنتزهات العامة التي يقصدها المصريون للاحتفال بشم النسيم
حديقة الحيوان بالجيزة، من أقدم وأشهر الحدائق في مصر والشرق الأوسط، تأسست عام 1891، وتكون وجهة محببة للعائلات، خاصة الأطفال، لما تحتويه من حيوانات ومساحات خضراء وأماكن ترفيه.
الحديقة الدولية بمدينة نصر، تقع في قلب القاهرة وتُعد من أكثر الأماكن ازدحامًا في شم النسيم، حيث تضم مساحات خضراء شاسعة، وحدائق تمثل دولًا مختلفة، ومناطق ألعاب.

حديقة الأزهر بالقاهرة، تُعرف بأنها واحدة من أجمل الحدائق في الشرق الأوسط، وتتميز بموقعها المميز وإطلالتها على القاهرة القديمة، وتُعد ملاذًا لمحبي الطبيعة والمناظر الخلابة.
حدائق القناطر الخيرية (القليوبية)، تُعد من الوجهات المفضلة لسكان القاهرة الكبرى، حيث يجتمع الناس في الحدائق الممتدة على ضفاف النيل للاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة وجولات القوارب.
حديقة الأورمان بالجيزة، تجاور حديقة الحيوان وتشتهر في الربيع بمعرض الزهور، ما يجعلها مكانًا مثاليًا للاحتفال بشم النسيم وسط ألوان الطبيعة وعطر الزهور.
كورنيش النيل وحدائق النيل، ففي مختلف المدن المصرية، وخاصة في القاهرة وأسوان والأقصر والمنصورة، يُعتبر الكورنيش مكانًا مفضلًا للنزهات في شم النسيم، حيث يُنظم البعض رحلات نيلية بالقوارب أو يجلسون على الضفاف لتناول الطعام.
الحدائق العامة بالإسكندرية، ومن أبرزها "أنطونيادس" و"المنتزه"، حيث يتجمع السكندريون لقضاء اليوم بين الطبيعة ومياه البحر، في جو من البهجة العائلية.
حدائق المدن الجديدة، مثل حدائق مدينة 6 أكتوبر، الشيخ زايد، الشروق، والعبور، حيث يقصد السكان الحدائق المركزية التي صُممت بمساحات كبيرة لاستيعاب الأسر في المناسبات.

0 تعليق