رغم أن المسافة بين غزة وكييف آلاف الكيلومترات، ورغم اختلاف اللغات والدين والثقافة والبيئة، إلا أن تفاصيل الدم واحدة، ورائحة البارود لا تختلف كثيرًا، والمشاهد التي تصفع الوجدان عبر الشاشات توحي بأن العالم يشهد وجهين لنفس المعادلة: القوة في مواجهة الإصرار، والهيمنة في مواجهة الهوية، والحصار في مواجهة الأمل. لا يحتاج المتابع لكثير من الجهد كي يلاحظ أن الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة تتشابهان في بنية الصراع وشكله وحدته، وإن اختلفت أسبابه وسياقاته.
في أوكرانيا، تغزو دولة كبرى ذات قوة نووية دولة أصغر منها، بدعوى حماية الأمن القومي وردع النفوذ الغربي الأمريكي ، وبالنسبة لغزة تهاجم قوة عسكرية متقدمة أرضًا محاصرة منذ أكثر من 17 عامًا ودولة محتلة منذ منتصف القرن الماضي ، بدعوى حماية الذات وحق الدفاع .
وهنا في الحالتين، يسقط المدنيون أولًا، وتهدم المستشفيات والمدارس، وتتحول المدن إلى ساحات حرب مفتوحة، ثم يأتي بعد ذلك سيل لا ينقطع من التصريحات الدولية المترددة والمختلفة ، التي تدين أحيانًا، وتبرر أحيانًا، وتصمت في كثير من الأحيان خاصة بالنسبة لغزة .
لذلك أرى أن ما يجمع الحربين هو اختلال موازين القوة، لا فقط على مستوى العتاد العسكري، بل في طريقة تصوير الصراع للعالم، إذ أن الرواية الغربية تحتفي بأوكرانيا كمقاومة بطولية في وجه " القوة الروسية"، بينما تصف المقاومة الفلسطينية في كثير من الأحيان بـأن ليس لهم حق"، رغم التشابه الواضح بين من يدافع عن أرضه في كييف ومن يقاتل من تحت الحصار في غزة .
وهنا نجد هذا التناقض في المواقف يكشف هشاشة القيم التي يروج لها الغرب عن العدالة وحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني ويضع علامات استفهام حول مصداقية المعايير الدولية التي يفترض أن تطبق على الجميع.
لكن المسألة ليست فقط في مواقف الدول، بل في تغير المزاج الشعبي العالمي خلال الحربين، شهدنا حراكًا شعبيًا واسعًا؛ تضامنًا مع أوكرانيا في البداية، ثم غضبًا عارمًا في عواصم غربية بسبب ما يحدث في غزة. الجامعات، الشوارع، حتى بعض وسائل الإعلام التي كانت يومًا تردد الخطاب الرسمي بدأت تراجع نفسها تحت ضغط الصور والحقائق الدامية هذا الوعي الشعبي المتصاعد لم يكن موجودًا بهذه القوة في حروب سابقة، ما يعني أن الشعوب بدأت تفرق بين الحقيقة والدعاية، وتدرك أن الدم الإنساني لا يقاس بلون الجواز ولا بانتماء الجغرافيا .
لذلك نجد أن الصراع في غزة، كما في أوكرانيا، ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل هو اختبار لضمير العالم، واختبار لقدرة المنظومة الدولية على حماية المدنيين، وردع الاحتلالات، وفرض القانون الدولي الإنساني بشكل عادل.
إن استمرار ازدواجية المعايير في التعامل مع المأساة الفلسطينية، مقارنة بالتعاطف السياسي والدبلوماسي الواسع مع أوكرانيا، لن يكرس إلا مزيدًا من فقدان الثقة في النظام العالمي، ويدفع المزيد من الشعوب نحو القناعة بأن قوة الدولة هي الخيار الوحيد المتاح في عالم لا يسمع إلا صوت القوة.
وأيضا من خلال المشهد العالمي فإن الحربين، رغم اختلاف أطرافهما، تكشفان عن حقيقة واحدة وهي أن التفوق العسكري لا يعني الانتصار الأخلاقي، وأن الشعوب التي تؤمن بقضيتها، مهما ضعفت إمكانياتها، قادرة على أن تفرض نفسها على طاولة التاريخ.
فكما لم تستطع روسيا إخضاع الإرادة الأوكرانية رغم قوتها، لم تستطع دولة الاحتلال الإسرائيلي كسر روح غزة رغم عقود من الحصار والدمار.
وأرى من خلال مقارنتي بوضوح إن كانت الحرب تكتب بالرصاص، فإن السلام لا يفرض بالقوة، بل السلام يأتي بالعدل ، ومن لا يفهم هذه القاعدة، يبقى سجين وهم الانتصار في زمن تتغير فيه قواعد اللعبة.
لذلك أدت الحربان، في غزة وأوكرانيا، إلى تآكل المفاهيم التقليدية للحرب والسيادة، وأصبحت السيادة اليوم مجرد ورقة تلوح بها الدول القوية حين تخدم مصالحها، وتتجاهلها تمامًا حين تتعارض مع أجنداتها.
كما رأينا ذلك بالنسبة للحرب على أوكرانيا تم استخدام القانون الدولي كأداة سياسية لا كمرجعية أخلاقية، وتحول انتهاك السيادة إلى قضية مركزية تلهب المشاعر الغربية، بينما نرى عكس ذلك مع القضية الفلسطينية يُختزل الاحتلال الإسرائيلي المستمر لعقود في كلمات باهتة دون وضوح ، وكأن غزة لا تستحق أن تعامل كأرض تحت الاحتلال، أو كشعب له الحق في تقرير مصيره .
ومع كل ذلك، لا تزال غزة تكتب فصلاً جديدًا من فصول الصمود، كما تكتب أوكرانيا قصة عناد سياسي وعسكري في وجه عملاق جغرافي.
وأرى كلا الشعبين يدفعان ثمناً باهظًا من دمائهما، لكنهما معًا يفضحان ضعف المنظومة الدولية، وعجز المؤسسات الأممية عن فرض الحماية أو وقف النزيف.
لقد أصبحت الأمم المتحدة، ومجلس الأمن تحديدًا، مشلولة أمام الفيتو والمصالح، وفقدت قدرتها على أداء وظيفتها الأساسية، وهي حماية السلام لا مراقبة الدماء وهي تسفك.
وفي النهاية إن ما يجمع بين غزة وكييف ليس فقط التشابه في المأساة، بل في كلا المدينتين، أطفال ونساء ورجال قرروا ألّا يكونوا مجرد أرقام في نشرات الأخبار، بل أن يكتبوا قصصًا عن الإرادة والحياة.
وهذه الواقع ، رغم الألم يظل، و يربك القوى الكبرى، لأنه يثبت أن الشعوب ليست مجرد وقود لحروب الكبار، بل رواة للحقائق ومفجرو الأسئلة في وجه الصمت العالمي.
غزة وكييف ليستا مجرد جبهتين، بل رمزين لعالم يتغير، وعلامتين على أن من يراهن على الحسم بالقوة فقط قد يربح أرضًا، لكنه يخسر المعنى.
وفي السياسة، كما في الحياة، من يخسر المعنى، يخسر كل شيء.
0 تعليق