لم يكن إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تسمية الجزء الجديد من عملياته العسكرية في غزة بـ«عربات جدعون» مجرد قرار بروتوكولي أو تفصيل تقني يمكن تجاوزه في خضم حرب دامية تُوصف بأنها إبادة جماعية ضد المدنيين الفلسطينيين.
بل سرعان ما تحولت هذه التسمية إلى محور نقاش واسع داخل الأوساط السياسية والإعلامية، حيث تكشفت أبعاد رمزية ودينية وتاريخية خلف هذا الاسم، عكست بوضوح التداخل العميق بين الأساطير التوراتية والخطاب السياسي الإسرائيلي اليميني، في محاولة لتسويق حرب مستمرة تحت غطاء ديني وتاريخي يُضفي عليها طابعًا قدريًا مقدسًا.
أولًا: الرمزية بين الدين والسياسة
لا تأتي تسمية العمليات العسكرية الإسرائيلية عشوائيًا، بل تُعهد هذه المهمة إلى وحدة متخصصة داخل الجيش، تتعمد استلهام أسماء ذات دلالات دينية وتاريخية كجزء من استراتيجية الحرب النفسية.
واختيار اسم «جدعون» هذه المرة لم يكن استثناءً، بل يُعد امتدادًا لهذه السياسة، حيث استُخرج الاسم من «سفر القضاة» في التوراة، حيث يظهر جدعون كقائد حرر بني إسرائيل من قبيلة المديانيين، التي يُعتقد أنها كانت تهاجمهم باستخدام الجمال، في حين كان هو يقود عربات الحرب.
ويُلاحظ أن هذه الرمزية لا تقتصر على البُعد الديني، بل تمتد إلى البُعد السياسي، إذ يحمل وزير خارجية الاحتلال الحالي الاسم ذاته – جدعون ساعر – مما فتح الباب أمام موجة من التهكم والسخرية، لا سيما في أوساط المعارضة، التي رأت أن "جدعون" التوراتي حرر شعبه، بينما "جدعون" العصري يخدم بقاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في السلطة رغم الأزمات الداخلية.
ثانيًا: السياق التوراتي لتسمية «عربات جدعون»
تُشير الرواية التوراتية إلى أن جدعون بن يوآش، الذي ينتمي إلى سبط منسي، قاد بني إسرائيل إلى نصر على المديانيين بقوة قوامها 300 رجل فقط، مستخدمًا العربات الحربية في مواجهة خصم عنيف وسريع الحركة. وقد اختير هذا الرمز ليُضفي بُعدًا أسطوريًا على العملية، وكأن الجيش الإسرائيلي يعيد تمثيل نبوءة دينية أو يُجسد معركة مقدسة.
وفي اللغة العبرية القديمة، تعني كلمة «جدعون» المصارع أو المحارب، وكان يُعتبر في الأدبيات الدينية اليهودية أحد رموز المسيح المخلّص، وارتبط اسمه ببناء «الهيكل الثالث». واليوم، يبدو أن العودة إلى هذا الاسم تخدم خطابًا أيديولوجيًا يريد تصوير العدوان على غزة كمرحلة ضرورية في طريق استكمال المشروع الصهيوني الديني والتوسعي.
ثالثًا: السخرية في الداخل الإسرائيلي
قوبلت التسمية داخل إسرائيل بقدر كبير من التهكم، حيث انتشر وسم «عجلات جدعون» على منصة "إكس" (تويتر سابقًا)، مصحوبًا برسومات كاريكاتورية ساخرة تُظهر وزير الخارجية جدعون ساعر يقود دراجة أطفال أو عربة أطفال إلى جانب زوجته، بينما صوره مؤيدو الحكومة كقائد توراتي على متن عربة حربية.
كما استعان الطرفان، المعارض والمؤيد، بتقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد صور زائفة تقترب من الواقع، مما حول الاسم إلى أداة صراع رمزي داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته، خاصة في ظل التوترات السياسية والانقسامات الحادة بين التيارات اليمينية والليبرالية.
رابعًا: إعادة إنتاج الخطاب التوراتي لتبرير الحاضر
لم تكن هذه المرة الأولى التي يُستخدم فيها اسم «جدعون» في عمليات عسكرية إسرائيلية، فقد أُطلق الاسم على «عملية جدعون» عام 1948 التي استهدفت قرية بيسان الفلسطينية وأدت إلى تهجير سكانها. واليوم، يعاد استخدام الاسم في سياق تبرير عملية عسكرية شرسة في غزة، حيث يُستحضر العدو التوراتي – المديانيون – كرمز للفلسطينيين، ليبدو العدوان وكأنه معركة وجودية تستوجب استخدام كل الوسائل.
ويحذر مراقبون من أن هذه الرمزية التوراتية قد تكون تمهيدًا لخطاب أخطر، يُروّج لبناء الهيكل الثالث على أنقاض الأقصى، خاصة في ظل ما يُروّج له من «حرب وجودية» تهدف – حسب زعم الرواية الصهيونية – إلى «تأمين بقاء الشعب اليهودي» في ما يُسمى «الأرض الموعودة».
خامسًا: الأبعاد الميدانية للعملية – تفكيك غزة
في الميدان، دخلت العملية العسكرية مرحلة متقدمة من القصف الجوي والمدفعي، وسط مؤشرات قوية على نية الاحتلال تنفيذ اجتياح بري تدريجي يهدف إلى تقسيم غزة إلى ثلاث مناطق رئيسية يتم من خلالها تفتيت النسيج السكاني الفلسطيني.
ووفق تحليل نشرته صحيفة «جويش كرونيكل»، فإن العملية العسكرية لا تكتفي بإضعاف المقاومة، بل تسعى أيضًا إلى خلق وقائع ديموغرافية جديدة على الأرض، بحيث تُمنع أي إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية متماسكة على حدود 1967، حتى إذا تحقق توافق سياسي بوساطة دولية، لا يجد الفلسطينيون ما يقيمون عليه دولتهم.
سادسًا: استراتيجية التهجير وتغيير الواقع
تستهدف العملية نقل السكان الفلسطينيين نحو جنوب القطاع، خاصة إلى رفح، تحت ذريعة الحماية، فيما تُجهّز نقاط تفتيش ضخمة لمراقبة تحركاتهم. وتتوزع مراحل العملية على النحو التالي:
- مرحلة أولى: قصف جوي مكثف يستهدف البنية التحتية والمرافق الحيوية.
- مرحلة ثانية: دفع السكان نحو الجنوب وإعادة انتشار القوات حول غزة.
- مرحلة ثالثة: مناورة برية طويلة الأمد تهدف إلى السيطرة التامة وتفكيك قواعد المقاومة.
وبينما يُعلن الاحتلال أن هدفه هو استعادة المختطفين وهزيمة حماس، تكشف المؤشرات أن هناك أهدافًا أعمق وأكثر جذرية تتعلق بالسيطرة الجغرافية والديموغرافية طويلة الأمد.
التسمية ليست تفصيلًا
في النهاية، يتبيّن أن تسمية «عربات جدعون» ليست مجرد غطاء لعملية عسكرية، بل هي جزء من مشروع أيديولوجي أوسع، يستخدم الدين والتاريخ لتبرير العنف والاحتلال. وبينما تُمارَس الإبادة تحت راية رمزية، تتحول غزة إلى مختبر لفرض وقائع جديدة، تجهض أي أمل في دولة فلسطينية ذات سيادة.
وهكذا، فإن الرمز التوراتي لا ينفصل عن واقع سياسي تحكمه عقلية استعمارية تسعى إلى محو الآخر – سياسيًا وسكانيًا – تحت شعارات توراتية مغلّفة بالقداسة، فيما يواصل الفلسطينيون مقاومة محاولة طمس وجودهم وتاريخهم وهويتهم.
خطة مراكب جدعون.. جريمة ديموجرافية؟
وفي هذا السياق، لفت الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية، إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يروّج لما يُسمّى بـ"خطة مراكب جدعون"، وهي خطة تتضمن تهجيرًا جماعيًا لسكان غزة عبر دفعهم جنوبًا إلى رفح، ثم ترحيلهم عبر مطار "رامون" في صحراء النقب.
وأضاف الرقب في تصريحات لـ "صدى البلد"، أن هذه الخطة بأنها "جريمة منظمة تهدف إلى فرض واقع ديموجرافي جديد"، معتبرًا أن الصمت الأمريكي تجاهها يثير الريبة، وربما يكون مؤشرًا على أن الخطة جزء من صفقة جيوسياسية أوسع تُطبخ في الكواليس.
وختم الرقب بالتحذير من أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة، التي تحدث فيها عن "استمرار القتال" و"مفاجآت قادمة"، تعكس نية مبيّتة لإفشال أي اتفاق مرتقب، وتؤكد أن الحكومة الإسرائيلية تُراوغ وتستعد لجولة جديدة من التصعيد.
0 تعليق