في ظل تحولات جذرية يشهدها النظام العالمي، جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الروسية موسكو لتشكل حدثًا سياسيًا له أبعاد استراتيجية تتجاوز الأطر التقليدية للعلاقات الثنائية بين مصر وروسيا ،الزيارة التي حظيت باهتمام إعلامي وشعبي واسع، تمثل خطوة ذكية في وقت بالغ الحساسية، وتعكس رؤية سياسية واضحة لموقع مصر من التغيرات في الوضع السياسي العالمي التي تعيد رسم خريطة التحالفات بين الدول.
تأتي هذه الزيارة في لحظة فارقة على الصعيدين الإقليمي والدولي، إذ يشهد العالم تصاعدًا في التوترات بين الدول الكبرى، وعلى رأسها الصراع الروسي – الأوكراني المستمر، وما يصاحبه من تداعيات اقتصادية وسياسية عالمية ، ومن جهة أخرى، فإن تصاعد التنافس بين الشرق والغرب يعيد تشكيل قواعد اللعبة الدولية، ويمنح الدول ذات الوزن الإقليمي – كمصر – فرصة نادرة لإعادة تموضعها وتعظيم دورها.
في هذا السياق، فإن زيارة الرئيس السيسي إلى موسكو لم تكن زيارة بروتوكولية فحسب، بل رسالة سياسية ذات أبعاد متعددة من حيث التوقيت، فهي تعكس حرص القيادة المصرية على الحفاظ على توازن العلاقات بين الشرق والغرب، وتأكيد استقلالية القرار المصري القائم على المصالح الوطنية بعيدًا عن الاصطفاف السياسي الدولي.
العلاقات بين القاهرة وموسكو ليست وليدة اللحظة، بل تمتد إلى عقود مضت، حيث شهدت مراحل متعددة من التعاون المثمر، منذ حقبة الاتحاد السوفيتي مرورًا بفترات التعاون في مجالات الصناعة والتسليح والتعليم ، ومع تولي الرئيس السيسي الحكم، شهدت هذه العلاقات تطورًا ملحوظًا، تمثل في توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية، أبرزها مشروع محطة الضبعة النووية، وصفقات التسليح العسكري، والتعاون في مجال الأمن الغذائي.
الزيارة الأخيرة تأتي لتعزيز هذا المسار، والتأكيد على عمق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، لا سيما في ظل سعي مصر لتنويع مصادر تسليحها، وتأمين احتياجاتها من الغذاء والطاقة، والانخراط في مشروعات اقتصادية تعزز من قدرتها التنافسية في محيطها الإقليمي.
من أبرز الملفات التي طرحت خلال الزيارة، تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين ، فروسيا تمثل أحد الشركاء التجاريين المهمين لمصر، سواء في مجال واردات الحبوب – خاصة القمح – أو في تصدير المنتجات الزراعية المصرية إلى السوق الروسية.
ومع التطورات العالمية التي أدت إلى اضطراب سلاسل الإمداد، بات من الضروري لمصر تأمين مصادر دائمة للسلع الاستراتيجية، وهو ما يعزز من أهمية الاتفاقات التي ناقشها الرئيس السيسي خلال زيارته، وفي مقدمتها تعزيز التبادل التجاري، وزيادة الاستثمارات الروسية في السوق المصرية، خاصة في المنطقة الصناعية الروسية بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
هذه الخطوات ليست فقط لصالح الاقتصاد المصري، بل تعكس أيضًا إيمان روسيا بمصر كشريك استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وممر حيوي إلى الأسواق العالمية.
لا يمكن فصل الزيارة عن بعدها السياسي، فمصر – التي لطالما انتهجت سياسة خارجية متوازنة – تسعى اليوم إلى ترسيخ استقلال قرارها في ظل الضغوط الدولية المتزايدة. زيارة الرئيس السيسي إلى موسكو في هذا التوقيت، تعكس رسالة مفادها أن مصر ليست تابعة لأي محور، بل تسعى إلى بناء علاقات متوازنة قائمة على المصالح المشتركة.
كما أن اللقاءات التي جمعت بين الرئيس السيسي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، حملت دلالات سياسية مهمة، خصوصًا في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية والدولية ، فمصر تؤكد دومًا على ضرورة الحلول السلمية للأزمات، وهو موقف ثابت من الأزمة الأوكرانية، وكذلك من قضايا الشرق الأوسط كالأزمة الليبية والسورية والقضية الفلسطينية.
الزيارة لم تغفل الملفات السياسية ذات الاهتمام المشترك، ومن بينها تطورات الأوضاع في غزة، والملف السوداني، وأمن البحر الأحمر، وهي ملفات تتقاطع فيها مصالح البلدين ، إذ ترى روسيا في مصر شريكًا مهمًا لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، بينما تعتبر مصر روسيا دولة مؤثرة في موازين القوى العالمية، ما يجعل التنسيق بينهما ضروريًا على المستويين الإقليمي والدولي.
من الناحية الداخلية، فإن هذه الزيارة تضيف إلى رصيد الرئيس السيسي السياسي، وتؤكد مكانة مصر الدولية، فهي تبعث برسالة طمأنينة إلى الشارع المصري حول قدرة القيادة على حماية المصالح القومية، وتأمين الاحتياجات الأساسية، في ظل الأزمات العالمية.
كما أنها تدعم الاقتصاد الوطني من خلال جذب الاستثمارات وتوسيع آفاق التعاون مع دولة كبرى مثل روسيا، بما ينعكس على فرص العمل، والتطوير الصناعي، والأمن الغذائي.
إن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى موسكو ليست مجرد زيارة رسمية عابرة، بل هي خطوة استراتيجية مدروسة تأتي في وقت يشهد فيه العالم مخاضًا نحو نظام دولي متعدد الأقطاب ، وبينما تسعى الدول الكبرى إلى ترسيخ نفوذها، تسير مصر بثبات نحو تأكيد استقلالها، وتعظيم دورها كلاعب محوري في توازنات المنطقة والعالم.
الزيارة تحمل رسائل عديدة، أهمها أن مصر تدير سياستها الخارجية وفقًا لمصالحها الوطنية، لا انطلاقًا من اصطفافات دولية. وهي في الوقت نفسه، تفتح آفاقًا جديدة للتعاون المثمر مع روسيا، في إطار من الاحترام المتبادل والشراكة المستندة إلى التاريخ والثقة .
0 تعليق